هنا ننتقل إلى مصدرين إسلاميين آخرين:
المصدر الأول: يعتبر متقدماً وهو المسعودي المؤرخ المشهور في أوائل القرن الرابع الهجري.
الطرافة هنا: أننا عندما ذكرنا أن حضارة بلاد ما بين النهرين لها تاريخ أسطوري هائل جداً، وأن الملوك العشرة أو القرون العشرة حكموا أربعمائة واثنين وثلاثين ألف سنة! وأن بعض ملوكهم حكم أكثر من ستين ألف سنة! يعني: تستطيع أن تعطي معدل أكثر ملوكهم عشرين إلى ثلاثين ألف سنة!
الأرقام هذه التي حيرت علماء الغرب وأذهلتهم! هربوا من الضيق الشديد الذي ألجأتهم إليه تقاويم التوراة إلى هذه السعة المفرطة جداً التي لا تكاد العقول أن تصدقها! فاحتاروا ماذا يصنعون؟ فبقوا مترددين وحائرين, على سبيل المثال: مؤلف أمريكي ألَّف كتاباً اسمه: الماضي الحي, ترجمه الدكتور: شاكر إبراهيم، وهو كتاب من أفضل الكتب في هذا الباب لولا الطابع العلماني عليه؛ لكن هذا الكتاب يجمع بين نظريتين: بين الحقيقة وهي قصر الحضارة، التي هي عند علماء التاريخ اللاديني أو التاريخ الغربي الحديث عموماً، فما يرونه حقيقة هو أنه إلى ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف سنة قبل الميلاد بدأت الحضارة وبدأت الكتابة، ويجمع -دون أن يشعر- في بعض المواضع بينها وبين الجانب الأسطوري الكبير.
مثلاً: عندما تكلم عن حضارة سومر -بلاد ما بين النهرين عموماً- يقول: إن ما بين سبعة آلاف سنة أو نحو ذلك. تقريباً أعطاها أبعد مدى سبعة آلاف سنة، في الفصل الذي تكلم فيه عن حضارة الصين ذكر أنها خمسمائة ألف سنة! كيف يمكن هذا؟!
الحل الذي أرادوا أن يحلّوا به أن يقولوا: إن أربعة آلاف سنة إلى سبعة آلاف هي الحضارة: الكتابة، التدوين، العلم، أما ما قبل ذلك بمئات الألوف فهي همجية وبدائية لا قيمة لها, فلم يمكنهم أن يجمعوا بين هذا, ولو أنهم اختصروا المدة وعرفوا ما جاء في الوحي أنهم كانوا على التوحيد لانحلت الإشكالية.
نقرأ قليلاً من كلامه في إعجابه هو المؤلف الدكتور: إيفار ليسنر يقول: لولا الشرق القديم لما أصبحنا على ما نحن عليه, وبدون فهمه لم يتسنَ لنا قط معرفة أنفسنا لقد انتقلت إلينا من السومريين مظاهر حضارية كثيرة عن طريق الآشوريين والبابليين والمصريين واليونان والرومان, وكشفت الحفريات في بلاد ما بين النهرين عن جذور تطورنا الفكري والروحي, إن الأبجدية -يعني: الحروف الأبجدية- التي نعرفها وعقيدتنا الدينية ونظامنا القانوني وفنوننا إنما رسمتها جميعاً من قبل عملية تطور طويلة؛ فمن بلاد ما بين النهرين ومن السومريين جاء ما يمكن أن يعتبر نقطة انطلاق حاسمة في تاريخ الحضارات جميعاً؛ ألا وهو فن الكتابة.
ثم يبدأ يقول كيف الذي ألف كتاب تاريخ العالم وأصدر مجلدات منه قبل الحرب العالمية الأولى يقول عن تاريخ السومريين: إننا لا نعرف عنهم شيئاً.
يعني: أدهشتهم هذه الاكتشافات ولم يستطيعوا التوفيق بين خمسمائة ألف سنة من آثار حضارة وجدت كما يدّعون؛ وبين أربعة آلاف سنة ونحوها التي فيها الكتابة، فسدوا الفراغ بأن افترضوا أن ما قبل أربعة آلاف سنة إلى خمسمائة ألف سنة كله عصر بدائي لا كتابة فيه وإنما هو همجية ورعاع.
هنا نرجع إلى المسعودي فنجد المقارنة, شيء عجيب جداً حقيقة, وهو قد نقل عن كتبهم, يقول تحت عنوان: ملوك بابل المعروفين بالكلدانيين؛ وملوك بابل هؤلاء القدامى جعل أولهم هو نمرود الجبار , وكان ملكه نحواً من ستين سنة -والذي سبق أن قرأناه: أنه كان ستين ألف سنة- وبعده بولو أو بولوز سبعون سنة، وبعده فلان مائة سنة وبعده فلان عشرون إلى خمسة عشر إلى عشر إلى سنة واحدة.. إلى آخره.
فذكر أكثر من أربعين ملكاً، وكل التواريخ معقولة, ويمكن أن تكون وقعت, ولم يشر إلى شيء من ذلك؛ ويرجع ويقول: قرأ ذلك من كتبهم!
هل هذا اطلع على كتب لم يطلعوا عليها أولئك؟ لماذا لم يطلع عليها الغربيون من قبل؟ ما هي المفارقة العجيبة في هذا؟!
النظرة الإسلامية دائماً نجدها معقولة وقريبة، مثلاً أفريدون على سبيل المثال -هو الذي وَجدت مبالغة في كلام المسعودي عنه- يقال: إنه حكم خمسمائة سنة! يعني: الرقم غريب جداً, ونحن نفترض أنه خطأ بدون نقاش تقريباً؛ لكن القضية: الفرق بين الذي قال: خمسمائة وبين الذي جعلها ستين ألف سنة! الخطأ قد يكون مشتركاً، لكن هناك خطأ فاحش بعيد عن التصور، وهناك خطأ معقول قد يكون قريباً من الحقيقة أو شيئاً من هذا.
المقصود: أن المنهجية التي سار عليها علماء المسلمين في هذا تلقي الضوء على المصادر، وأنها كانت قريبة ومعقولة، أن لديهم مصادر نقلية, وحتى ما يسمى المصادر الحديثة من قراءة النقوش، وقراءة المكتوب على الحجارة وما أشبه ذلك كان موجوداً ومعروفاً في مواضع كثيرة من تاريخ دمشق لــابن عساكر نجد أنه وُجد حجر فقرأه فلان أو قرأه كعب أو قرأه غيره، وأيضاً في أول سيرة ابن هشام :
في الحجر المنقوش تحت المنبر
بيت من الشعر يعني: أنه حجر منقوش تحت المنبر.
فكانت النقوش معروفة، وكانت قراءة الكتابة والخطوط القديمة معروفة، فمصادرهم قد تكون من هذا ومن هذا، وإن كانوا طبعاً لم يستطيعوا حلَّ رموز بعض اللغات القديمة، لا المسعودي ولا المقريزي ولا غيرهم؛ فعندما يرون الأهرام يقولون: هذه صور حيوانات، ولا يدرون أنها خطوط قديمة؛ لكن جهلهم بهذا لا يجعلنا نحط من قدرهم بقدر ما نجل ونقدر فيهم أنهم من وسائل قليلة -لا نملك نحن كثير منها- قد استنبطوا وكتبوا كلاماً قريباً من الحقيقة التي يمكن أن تصدق بالعقل المجرد بغض النظر عن الواقع التاريخي.
أضف تعليقا
تنويه: يتم نشر التعليقات بعد مراجعتها من قبل إدارة الموقع